سورة الشعراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


قوله: {واتل عَلَيْهِمْ} معطوف على العامل في قوله: {وَإِذَا نادى رَبُّكَ موسى} [الشعراء: 10]، وقد تقدّم، والمراد بنبأ إبراهيم خبره أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه، و{إِذْ قَالَ} منصوب بنبأ إبراهيم أي: وقت قوله: {لأِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}، وقيل: {إذ} بدل من نبأ بدل اشتمال، فيكون العامل فيه: اتل، والأوّل أولى. ومعنى {مَا تَعْبُدُونَ}: أيّ شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، ولكنه أراد إلزامهم الحجة {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} أي فنقيم على عبادتها مستمراً لا في وقت معين، يقال: ظلّ يفعل كذا: إذا فعله نهاراً، وبات يفعل كذا: إذا فعله ليلاً، فظاهره: أنهم يستمرّون على عبادتها نهاراً لا ليلاً، والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها، وإنما قال: {لها} لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها، فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبهاً على فساد مذهبهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} قال الأخفش: فيه حذف، والمعنى: هل يسمعون منكم؟ أو هل يسمعون دعاءكم؟ وقرأ قتادة: {هل يسمعونكم} بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} بوجه من وجوه النفع {أَوْ يَضُرُّونَ} أي: يضرّونكم إذا تركتم عبادتهم، وهذا الاستفهام للتقرير، فإنها إذا كانت لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضرّ، فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا: نعم هي كذلك، أقرّوا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جواباً إلاّ رجوعهم إلى التقليد البحت، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون أي: يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها.
وهذا الجواب هو العصى التي يتوكأ عليها كلّ عاجز، ويمشي بها كلّ أعرج، ويغترّ بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع؛ فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها والعرض، وقلت لهم: ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء، والأخذ بكل ما يقوله في الدين، ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب، ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعدّدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم، واقتداء بأقواله وأفعاله، وهم قد ملؤوا صدورهم هيبة، وضاقت أذهانهم عن تصوّرهم، وظنوا أنهم خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأورعهم، فلم يسمعوا لناصح نصحاً، ولا لداع إلى الحق دعاء، ولو فطنوا لوجدوا أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي، كما قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها *** أعمى على عوج الطريق الحائر
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف: أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء، فلو أوردت عليه كلّ حجة، وأقمت عليه كلّ برهان لما أعارك إلاّ أذنا صماء، وعيناً عمياء، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص: 56].
ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة {قَالَ} الخليل {قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمون} أي: فهل أبصرتم، وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضرّ حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة؟ ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها. فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}، ومعنى كونهم عدوًّا له مع كونهم جماداً: أنه إن عبدهم كانوا له عدوًّا يوم القيامة. قال الفراء: هذا من المقلوب أي: فإني عدوّ لهم؛ لأن من عاديته عاداك، والعدوّ كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث كذا قال الفراء. قال عليّ بن سليمان: من قال: عدوّة الله، فأثبت الهاء، قال: هي بمعنى المعادية، ومن قال: عدوّ للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب. وقيل: المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام، وردّ بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ رَبَّ العالمين} منقطع أي لكن ربّ العالمين ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة. قال الزجاج: قال النحويون: هو استثناء ليس من الأوّل، وأجاز الزجاج أيضاً أن يكون من الأوّل على أنهم كانوا يعبدون الله عزّ وجلّ، ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلاّ الله. قال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلاّ رب العالمين، فإنهم عدوّ لي، فجعله من باب التقديم والتأخير، وجعل إلاّ بمعنى دون وسوى كقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي دون الموتة الأولى.
وقال الحسن بن الفضل: إن المعنى: إلاّ من عبد ربّ العالمين.
ثم وصف ربّ العالمين بقوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي: فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا. وقيل: إن الموصول مبتدأ، وما بعده خبره، والأوّل أولى. ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من ربّ، وأن يكون عطف بيان له، وأن يكون منصوباً على المدح بتقدير: أعني، أو أمدح، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق، والهداية، والرزق يدلّ عليه قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، ودفع ضرّ المرض، وجلب نفع الشفاء، والإماتة، والإحياء، والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلاً عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها، وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الربّ، وإلاّ فالمرض وغيره من الله سبحانه، ومراده بقوله: {ثُمَّ يُحْيِينِ} البعث، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي.
وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء، وإنما قال عليه الصلاة والسلام: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} هضماً لنفسه، وقيل: إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق {خطاياي} قالا: ليست خطيئته واحدة. قال النحاس: خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب. قال مجاهد: يعني بخطيئته قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} [الأنبياء: 63]، وقوله: {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: إن سارة أخته، زاد الحسن: وقوله للكوكب: {هذا رَبّي} [الأنعام: 86]، وحكى الواحدي عن المفسرين: أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد. قال الزجاج: الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلاّ أنهم لا تكون منهم الكبيرة؛ لأنهم معصومون، والمراد بيوم الدين: يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد، ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضاً إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه.
ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه، والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك، فقال: {رَبّ هَبْ لِي حُكْماً}، والمراد بالحكم العلم والفهم، وقيل: النبوّة والرسالة، وقيل: المعرفة بحدود الله، وأحكامه إلى آخره {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} يعني: بالنبيين من قبلي. وقيل: بأهل الجنة {واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} أي: اجعل لي ثناء حسناً في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، ومنه قول الأعشى:
إني أتتني لسان لا أسرّ بها ***
وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} [الصافات: 108] فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه.
وقال مكي: قيل: معنى سؤاله: أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا التخصيص.
وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة، ولا وجه لهذا أيضاً، فإن لسان الصدق أعم من ذلك {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم}: {من ورثة} يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني أي وارثاً من ورثة جنة النعيم، لما طلب عليه السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وجعلها مما يورث تشبيهاً لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا، وقد تقدّم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم: {واغفر لأِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} كان أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فاستغفر له، فلما تبين له أنه عدوّ الله تبرأ منه، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة التوبة وسورة مريم، ومعنى {مِنَ الضالين}: من المشركين الضالين عن طريق الهداية.
و {كان} زائدة على مذهب سيبويه كما تقدّم في غير موضع.
{وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي: لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي، أو لا تعذبني يوم القيامة، أو لا تخزني بتعذيب أبي أو ببعثه في جملة الضالين، والإخزاء يطلق على الخزي، وهو الهوان، وعلى الخزاية وهي الحياء، و{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} بدل من يبعثون، أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون أحداً من الناس، والابن هو أخصّ القرابة، وأولاهم بالحماية، والدفع، والنفع، فإذا لم ينفع، فغيره من القرابة، والأعوان بالأولى.
وقال ابن عطية: إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قيل: هو منقطع، أي: لكن من أتى الله بقلب سليم. قال في الكشاف: إلا حال من أتى الله بقلب سليم، فقدّر مضافاً محذوفاً. قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. وقيل: إن هذا الاستثناء بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلاّ من كانت هذه صفته، ويحتمل أن يكون بدلاً من فاعل {ينفع}، فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: فيكون التقدير: إلاّ مال من أو بنو من، فإنه ينفع. واختلف في معنى القلب السليم، فقيل: السليم من الشرك، فأما الذنوب، فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين.
وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، وقيل: هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة، وقيل: السالم من آفة المال والبنين.
وقال الضحاك: السليم الخالص.
وقال الجنيد: السليم في اللغة: اللديغ، فمعناه: أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى، وهذا تحريف وتعكيس لمعنى القرآن. قال الرازي: أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة.
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أي: قربت، وأدنيت لهم؛ ليدخلوها.
وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها {وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} أي جعلت بارزة لهم، والمراد بالغاوين: الكافرون، والمعنى: أنها أظهرت قبل أن يدخلها المؤمنون، ليشتدّ حزن الكافرين، ويكثر سرور المؤمنين {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله} من الأصنام والأنداد {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} فيدفعون عنكم العذاب {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم. وهذا كله توبيخ وتقريع لهم، وقرأ مالك بن دينار: {وبرّزت} بفتح الباء والراء مبنياً للفاعل.
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} أي ألقوا في جهنم {هم} يعني: المعبودين، و{الغاوون} يعني: العابدين لهم. وقيل: معنى كبكبوا: قلبوا على رؤوسهم، وقيل: ألقى بعضهم على بعض، وقيل: جمعوا، مأخذوا من الكبكبة، وهي الجماعة قاله الهروي.
وقال النحاس: هو مشتق من كوكب الشيء أي معظمه، والجماعة من الخيل كوكب، وكبكبة، وقيل: دهدهوا، وهذه المعاني متقاربة، وأصله كببوا بباءين الأولى مشدّدة من حرفين، فأبدل من الباء الوسطى الكاف.
وقد رجح الزجاج أن المعنى: طرح بعضهم على بعض.
ورجح ابن قتيبة أن المعنى: ألقوا على رؤوسهم. وقيل: الضمير في كبكبوا لقريش، والغاوون الآلهة، والمراد بجنود إبليس: شياطينه الذين يغوون العباد، وقيل: ذريته، وقيل: كل من يدعو إلى عبادة الأصنام، و{أَجْمَعُونَ} تأكيد للضمير في كبكبوا، وما عطف عليه.
وجملة: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل؟ ومقول القول: {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ} وجملة: {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} في محل نصب على الحال أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين، و{إن} في {إِن كُنَّا} هي المخففة من الثقيلة، واللام فارقة بينها وبين النافية أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر، والمراد بالضلال هنا: الخسار، والتبار، والحيرة عن الحق، والعامل في الظرف، أعني: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} هو كونهم في الضلال المبين. وقيل: العامل هو الضلال، وقيل: ما يدل عليه الكلام، كأنه قيل: ضللنا وقت تسويتنا لكم بربّ العالمين.
وقال الكوفيون: إنّ {إن} في {أَن كُنَّا} نافية، واللام بمعنى إلاّ أي ما كنا إلا في ضلال مبين. والأوّل أولى، وهو مذهب البصريين.
{فَمَا لَنَا مِن شافعين} يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي: ذي قرابة، والحميم القريب الذي تودّه، ويودّك، ووحد الصديق لما تقدّم غير مرة أنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، والحميم مأخوذ من حامة الرجل أي: أقربائه، ويقال: حمّ الشيء وأحمّ إذا قرب منه، ومنه الحمى؛ لأنه يقرّب من الأجل.
وقال علي بن عيسى: إنما سمي القريب حميماً؛ لأنه يحمى لغضب صاحبه، فجعله مأخوذاً من الحمية. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} هذا منهم على طريق التمني الدالّ على كمال التحسر كأنهم قالوا: فليت لنا كرّة أي رجعة إلى الدنيا، وجواب التمني: {فنكون من المؤمنين} أي نصير من جملتهم، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلى ما تقدّم ذكره من نبأ إبراهيم، والآية: العبرة والعلامة، والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إبراهيم، وهم قريش ومن دان بدينهم.
وقيل: وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين، وهو ضعيف؛ لأنهم كلهم غير مؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه، أو الرحيم للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} يعني: بأهل الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} قال: اجتماع أهل الملل على إبراهيم.
وأخرج عنه أيضاً: {واغفر لأَبِى} قال: امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: ربّ إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزى من أبي؟ الأبعد فيقول الله: إني حرّمت الجنة على الكافرين، ثم يقول: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار»، والذيخ هو الذكر من الضباع، فكأنه حوّل آزر إلى صورة ذيخ.
وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} قال: جمعوا فيها {هُمْ والغاوون} قال: مشركو العرب والآلهة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} قال: رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} حتى تحلّ لنا الشفاعة كما حلت لهؤلاء.


قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} أنث الفعل لكونه مسنداً إلى قوم، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلاّ الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن كلّ رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل. وقيل: كذبوا نوحاً في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي: أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل: هي أخوة المجانسة، وقيل: هو من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون واحداً منهم {أَلاَ تَتَّقُونَ} أي: ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام، وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل: أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه، وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي ما أطلب منكم أجراًعلى تبليغ الرسالة، ولا أطمع في ذلك منكم {إِنْ أَجْرِيَ} الذي أطلبه وأريده {إِلاَّ على رَبّ العالمين} أي ما أجري إلاّ عليه، وكرّر قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأوّل، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} الاستفهام للإنكار أي كيف نتبعك ونؤمن لك، والحال أن قد اتبعك الأرذلون؟ وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى: رذلى، وهم الأقلون جاهاً ومالا، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتضاع أنسابهم. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، ويعقوب الحضرمي: {وأتباعك الأرذلون} قال النحاس: وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً، وأتباع جمع تابع، فأجابهم نوح بقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كان زائدة، والمعنى: وما علمي بعملهم أي لم أكلف العلم بأعمالهم. إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والإعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم: {واتبعك الأرذلون} إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، فأجابهم بهذا. وقيل: المعنى: إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم، والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلاّ على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم، قرأ الجمهور: {تشعرون} بالفوقية، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية، كأنه ترك الخطاب للكفار، والتفت إلى الإخبار عنهم.
قال الزجاج: والصناعات لا تضرّ في باب الديانات، وما أحسن ما قال: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} أي إن لم تترك عيب ديننا وسبّ آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة. وقيل: من المشتومين، وقيل: من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد، فلما سمع نوح قولهم هذا، قال: {رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي أصرّوا على تكذيبي، ولم يسمعوا قولي، ولا أجابوا دعائي {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الفتح: الحكم أي احكم بيني وبينهم حكماً، وقد تقدّم تحقيق معنى الفتح {وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين}.
فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال: {فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} أي السفينة المملوءة، والشحن ملء السفينة بالناس، والدوابّ، والمتاع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: علامة وعبرة عظيمة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} كان زائدة عند سيبويه، وغيره على ما تقدّم تحقيقه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي القاهر لأعدائه، الرحيم بأوليائه.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى. ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدّم وجهه في قصة نوح قريباً {إِذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً، وكذا قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين} الكلام فيه كالذي قبله سواء {أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ} الريع: المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة، يقال: كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها. قال أبو عبيدة: الريع: الارتفاع جمع ريعة.
وقال قتادة، والضحاك، والكلبي: الريع الطريق، وبه قال مقاتل والسديّ. وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة، ومنه قول ذي الرمة:
طراق الخوافِي مشرف فوق ريعة *** بذي ليله في ريشه يترقرقُ
وقيل: الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع.
وقال مجاهد: هو الفجّ بين الجبلين، وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه: أيضاً أنه المنظرة.
ومعنى الآية: أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علماً تعبثون ببنيانه، وتلعبون بالمارة، وتسخرون منهم، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة، وتسخرون منهم.
وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمرّ بهم حكاه الماوردي. قال ابن الأعرابي: الريع الصومعة، والريع: البرج يكون في الصحراء، والريع: التلّ العالي، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها. {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} المصانع: هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل. قال أبو عبيدة: كل بناء مصنعة منه، وبه قال الكلبي وغيره، ومنه قول الشاعر:
تركن دارهم منهم قفارا *** وهدّمنا المصانع والبروجا
وقيل: هي الحصون المشيدة، قاله مجاهد، وغيره، وقال الزجاج: إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها: مصنعة ومصنع، ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع *** وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وليس في هذا البيت ما يدلّ صريحاً على ما قاله الزجاج، ولكنه قال الجوهري: المصنعة بضم النون: الحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع: الحصون.
وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية. ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: راجين أن تخلدوا، وقيل: إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي أي هل تخلدون، كقولهم: لعلك تشتمني أي هل تشتمني؟ وقال الفراء: كي تخلدوا، لا تتفكرون في الموت. وقيل: المعنى: كأنكم باقون مخلدون. قرأ الجمهور: {تخلدون} مخففاً. وقرأ قتادة بالتشديد.
وحكى النحاس أن في بعض القراءات: {كأنكم مخلدون}، وقرأ ابن مسعود: {كي تخلدوا}.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} البطش: السطوة والأخذ بالعنف. قال مجاهد وغيره: البطش العسف قتلاً بالسيف، وضرباً بالسوط. والمعنى: فعلتم ذلك ظلماً، وقيل: هو القتل على الغضب قاله الحسن، والكلبي. قيل: والتقدير: وإذا أردتم البطش، لئلا يتحد الشرط، والجزاء، وانتصاب {جبارين} على الحال. قال الزجاج: إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق، فالبطش بالسوط والسيف جائز. ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتوّ والتمرّد والتجبر أمرهم بالتقوى، فقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أجمل التقوى ثم فصلها بقوله: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ}، وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد {وجنات وَعُيُونٍ} أي بساتين، وأنهار وأبيار. ثم وعظهم وحذرهم فقال: {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن كفرتم، وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم، والمراد بالعذاب العظيم: الدنيوي والأخروي.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي: أنصدّقك؟.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد {واتبعك الأرذلون} قال: الحوّاكون.
وأخرج أيضاً عن قتادة قال: سفلة الناس، وأراذلهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {الفلك المشحون} قال: الممتلئ.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه قال: «أتدرون ما المشحون؟ قلنا: لا، قال: هو الموقر».
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: هو المثقل.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: طريق {ءَايَةً} قال: علماً {تَعْبَثُونَ} قال: تلعبون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: شرف.
وأخرجوا أيضاً عنه: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال: كأنكم تخلدون.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {جَبَّارِينَ} قال: أقوياء.


أي وعظك، وعدمه {سَوَآء} عندنا لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله.
وقد روى العباس عن أبي عمرو، وروى بشر عن الكسائي {أَوَعَظْتَ} بإدغام الظاء في التاء، وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدًّا، وروى ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن. وقرأ الباقون بإظهار الظاء {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} أي: ما هذا الذي جئتنا به، ودعوتنا إليه من الدين إلاّ خلق الأوّلين أي عادتهم التي كانوا عليها. وقيل: المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إلاّ خلق الأوّلين وعادتهم، وهذا بناء على ما قاله الفراء، وغيره: إن معنى: {خُلُقُ الأولين}: عادة الأوّلين. قال النحاس: خلق الأوّلين عند الفراء بمعنى عادة الأوّلين.
وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: {خُلُقُ الأولين}: مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان. قال: وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى {خُلُقُ الأولين}: تكذيبهم. قال مقاتل: قالوا: ما هذا الذي تدعونا إليه إلاّ كذب الأوّلين. قال الواحدي: وهو قول ابن مسعود ومجاهد. قال: والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب: {خلق الأوّلين} بفتح الخاء، وسكون اللام. وقرأ الباقون بضم الخاء، واللام. قال الهروي: معناه على القراءة الأولى: اختلاقهم، وكذبهم. وعلى القراءة الثانية: عادتهم، وهذا التفصيل لا بدّ منه. قال ابن الأعرابي: الخلق: الدين، والخلق: الطبع، والخلق: المروءة. وقرأ أبو قلابة بضم الخاء، وسكون اللام، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما، والظاهر: أن المراد بالآية هو قول من قال: ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأوّلين وفعلهم، ويؤيده قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي على ما نفعل من البطش، ونحوه مما نحن عليه الآن. {فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم} أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} تقدّم تفسير هذا قريباً في هذه السورة.
ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه، ذكر قصة صالح وقومه، وكانوا يسكنون الحجر، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} إلى قوله: {إِلاَّ على رَبّ العالمين} قد تقدّم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة. {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ} الاستفهام للإنكار. أي: أتتركون في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله: {فِي جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}، والهضيم: النضيح الرخص اللين اللطيف، والطلع: ما يطلع من الثمر، وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلاّ الإبل، وهكذا يذكرون الجنة، ولا يريدون إلاّ النخل.
قال زهير:
كأن عيني في غربي مقبلة *** من النواضح تسقي جنة سحقاً
وسحقاً جمع سحوق، ولا يوصف به إلاّ النخل. وقيل: المراد بالجنات غير النخل من الشجر، والأوّل أولى.
وحكى الماوردي في معنى {هضيم} اثني عشر قولاً، أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه. {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين} النحت: النجر، والبري، نحته ينحته بالكسر: براه. والنحاتة: البراية، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدّم بناؤهم من المدر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان: {فرهين} بغير ألف. وقرأ الباقون: {فارهين} بالألف. قال أبو عبيدة وغيره: وهما بمعنى واحد. والفره: النشاط، وفرّق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا: {فارهين} حاذقين بنحتها، وقيل: متجبرين، و{فرهين} بطرين أشرين، وبه قال مجاهد، وغيره. وقيل: شرهين.
وقال الضحاك: كيسين.
وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل: فرحين، قاله الأخفش.
وقال ابن زيد: أقوياء {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} أي المشركين، وقيل: الذين عقروا الناقة، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله. {الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض، ولا يصدر منهم الصلاح ألبتة {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد، وقتادة. وقيل: المسحر هو: المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي، وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر، وهو الرئة، فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء: أي: إنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به، ومنه قول امرئ القيس أو لبيد:
فإن تسألينا: فيم نحن؟ فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس أيضاً:
أرانا موضعين لحتم غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب
قال المؤرّج: المسحر المخلوق بلغة ربيعة. {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في قولك، ودعواك {قَالَ هذه نَاقَةٌ} الله {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي لها نصيب من الماء، ولكم نصيب منه معلوم، ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر، فيقال: فيه شرب شِرباً، وشُرباً، وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا: الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي لا تمسوها بعقر، أو ضرب، أو شيء مما يسوؤها، وجواب النهي فيأخذكم {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نادمين} على عقرها، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم، وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً، فظهرت عليهم العلامة في كلّ يوم، وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره.
{فَأَخَذَهُمُ العذاب} الذي وعدهم به.
وقد تقدّم تفسير قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} في هذه السورة، وتقدّم أيضاً تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: معشب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: أينع وبلغ.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أرطب واسترخى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَرِهِينَ} قال: حاذقين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: {فَرِهِينَ} أشرين.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: شرهين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} قال: من المخلوقين، وأنشد قول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن.... ***
البيت.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في قوله: {لَّهَا شِرْبٌ} قال: إذا كان يومها أصدر لها لبناً ما شاؤوا.

1 | 2 | 3